-->

قصة موسى

 قصة موسى عليه السلام 



قصة موسى عليه السلام





•﴿سيرته﴾•


أثناء حياة يوسف علي السلام بمصر، تحولت مصر إلى التوحيد. توحيد الله سبحانه، وهي الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم. لكن بعد وفاته، عاد أهل مصر إلى ضلالهم وشركهم. أما أبناء يعقوب، أو أبناء إسرائيل، فقد اختلطوا بالمجتمع المصري، فضلّ منهم من ضل، وبقي على التوحيد من بقي. وتكاثر أبناء إسرائيل وتزايد عددهم، واشتغلوا في العديد من الحرف.

ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه. ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزيدون ويملكون. وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط فرعون مصر عن عرشه. فأصدر الفرعون أمره ألا يلد أحد من بني إسرائيل، أي أن يقتل أي وليد ذكر. وبدأ تطبيق النظام، ثم قال مستشارون فرعون له، إن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل، فستضعف مصر لقلة الأيدي العاملة بها. والأفضل أن تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام الذي يليه.

ووجد الفرعون أن هذا الحل أسلم. وحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة. فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلمان ولد موسى. حمل ميلاده خوفا عظيما لأمه. خافت عليه من القتل. راحت ترضعه في السر. ثم جاءت عليها ليلة مباركة أوحى الله إليها فيها للأم بصنع صندوق صغير لموسى. ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق. وإلقاءه في النهر.

كان قلب الأم، وهو أرحم القلوب في الدنيا، يمتلئ بالألم وهي ترمي ابنها في النيل، لكنها كانت تعلم أن الله أرحم بموسى منها، والله هو ربه ورب النيل. لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى الأمواج أن تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبيا فيما بعد، ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى قصر فرعون. وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون. وهناك أسلمه الموج للشاطئ.


﴿رفض موسى للمراضع﴾


وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر. وكانت زوجة فرعون تختلف كثيرا عنه. فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة. كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة. كان جبارا وكانت رقيقة وطيبة. وأيضا كانت حزينة، فلم تكن تلد. وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.

وعندما ذهبت الجواري ليملأن الجرار من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هو إلى زوجة فرعون. فأمرتهن أن يفتحنه ففتحنه. فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها. فلقد ألقى الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق. فاستيقظ موسى وبدأ يبكي. كان جائعا يحتاج إلى رضعة الصباح فبكى.

فجاءت زوجة فرعون إليه، وهي تحمل بين بيدها طفلا رضيعا. فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟ فحدثوه بأمر الصندوق. فقال بقلب لا يعرف الرحمة: لابد أنه أحد أطفال بني إسرائيل. أليس المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟

فذكّرت آسيا -امرأة فرعون- زوجها بعدم قدرتهم على وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته. سمح لها بذلك.

عاد موسى للبكاء من الجوع. فأمرت بإحضار المراضع. فحضرت مرضعة من القصر وأخذت موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها. فحضرت مرضعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع. فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.

لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفع موسى لجميع المراضع. فلقد كانت أم موسى هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها في النيل. غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره. وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها، وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون. لولا أن الله تعالى ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها لله. كل ما في الأمر أنها قالت لأخته: اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.

وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون، فإذا بها تسمع القصة الكاملة. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كل المراضع. وقالت أخت موسى لحرس فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟

ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا الأمر، وطلبت منها أن تحضر المرضعة. وعادت أخت موسى وأحضرت أمه. وأرضعته أمه فرضع. وتهللت زوجة فرعون وقالت: "خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته وأعيديه إلينا بعدها، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له". وهكذا رد الله تعالى موسى لأمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء. ورغم كل شيء.


﴿نشأة موسى في بيت فرعون﴾


أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرعون. كان موضع حب الجميع. كان لا يراه أحد إلا أحبه. وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته. بدأت تربية موسى في بيت فرعون. وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت. كانت مصر أيامها أعظم دولة في الأرض. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن الطبيعي أن يضم قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض. وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يتربى موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين، وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق.

وكبر موسى في بيت فرعون. كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرعون، إنما هو واحد من بني إسرائيل. وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل.. وكبر موسى وبلغ أشده.. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) وراح يتمشى فيها. فوجد رجلا من اتباع فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل، واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله. كان موسى قويا جدا، ولم يكن يقصد قتل الظالم، إنما أراد إزاحته فقط، لكن ضربته هذه قتلته. ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ). ودعا موسى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). وغفر الله تعالى له، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

أصبح موسى (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ). كان هذا حال موسى، حال إنسان مطارد، فهو خائف، يتوقع الشر في كل خطوة، وهو مترقب، يلتفت لأوهى الحركات وأخفاها. 

ووعد موسى بأن لا يكون ظهيرا للمجرمين. لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه. وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه بالأمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم. كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين. وأدرك موسى بأن هذا الإسرائيلي مشاغب. أدرك أنه من هواة المشاجرات. وصرخ موسى في الإسرائيلي يعنفه قائلا: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ). قال موسى كلمته واندفع نحوهما يريد البطش بالمصري. واعتقد الإسرائيلي أن موسى سيبطش به هو. دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه صارخا، وذكّره بالمصري الذي قتله بالأمس. فتوقف موسى، سكت عنه الغضب وتذكر ما فعله بالأمس، وكيف استغفر وتاب ووعد ألا يكون نصيرا للمجرمين. استدار موسى عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.

وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع الإسرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا على جثته أمس. ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل. فنشر هذا المصري الخبر في أرجاء المدينة. وانكشف سر موسى وظهر أمره. وجاء رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة مسرعا. ونصح موسى بالخروج من مصر، لأن المصريين ينوون قلته.

لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى. ونرجح أنه كان رجلا مصريا من ذوي الأهمية، فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا، ولو كان شخصية عادية لما عرف. يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالأمس.. لقد قتل الرجل خطأ. فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.

لكن رؤساء القوم وعليتهم، الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لأنه من بني إسرائيل، ولأنه نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر، وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى، فهو قاتل المصري، لذا فهو يستحق القتل.

خرج موسى من مصر على الفور. خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب. في قلبه دعاء لله (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وكان القوم ظالمين حقا. ألا يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه، وهو لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجلا فقتله خطأ؟

خرج موسى من مصر على عجل. لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملابسه ولم يأخذ طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته. لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله. ولم يكن في قافلة. إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج. اختار طريقا غير مطروق وسلكه. دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية الإلهية أن يتجه. لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا. هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر الصحراء وحده.


﴿موسى في مدين﴾


ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان. كان هذا المكان هو مدين. جلس يرتاح عند بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم. وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه من يقبض عليه.

لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح. نال منه الجوع والتعب، وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب. لم تكن معه نقود لشراء نعل جديدة. ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب. لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم، ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم، أحس موسى بما يشبه الإلهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة. تقدم منهما وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في شيء.

قالت إحداهما: نحن ننتظر أن ينتهي الرعاة من سقي غنمهم لنسقي.

سأل موسى: ولماذا لا تسقيان؟

قالت الأخرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال.

اندهش موسى لأنهما ترعيان الغنم. المفروض أن يرعى الرجال الأغنام. هذه مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى اليقظة.

سأل موسى: لماذا ترعيان الغنم؟

فقالت واحدة منهما: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج كل يوم للرعي.

فقال موسى: سأسقي لكما.

سار موسى نحو الماء. وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة. وفي رواية أن أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة لا يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال. فرفع موسى الصخرة وحده. وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وتركهما وعاد يجلس تحت ظل الشجرة. وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ.

سأل الأب: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟!

قالت إحداهما: تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم.

فقال الأب لابنته: اذهبي إليه وقولي له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليعطيك (أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).

ذهبت واحدة من الفتاتين إلى موسى، ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها. فنهض موسى وبصره في الأرض. إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا، وإنما ساعدهما لوجه الله، غير أنه أحس في داخله أن الله هو الذي يوجه قدميه فنهض. سارت البنت أمامه. هبت الرياح فضربت ثوبها فخفض موسى بصره حياء وقال لها: سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.

وصلا إلى الشيخ. قال بعض المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب. عمر طويلا بعد موت قومه. وقيل إنه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. لا نعرف أكثر من كونه شيخا صالحا.

قدم له الشيخ الطعام وسأله: من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدثه موسى عن قصته. قال الشيخ: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا إليك هنا. اطمأن موسى ونهض لينصرف.

قالت ابنة الشيخ لأبيها همسا: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

سألها الأب: كيف عرفت أنه قوي؟

قالت: رفع وحده صخرة لا يرفعها غير عدد رجال.

سألها: وكيف عرفت أنه أمين؟

قالت: رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي. وطوال الوقت الذي كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الأرض حياء وأدبا.

وعاد الشيخ لموسى وقال له: أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد أن أتعبك، (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). قال موسى: هذا اتفاق بيني وبينك. والله شاهد على اتفاقنا. سواء قضيت السنوات الثمانية، أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.

يخوض الكثيرون في تيه من الأقاصيص والروايات، حول أي ابنتي الشيخ تزوج، وأي المدتين قضى. والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ. لا نعرف من كانت، ولا ماذا كان اسمها. وهذه الأمور سكت عنها السياق القرآني. إلا أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه من أولي العزم. نرى أنه قضى الأجل الأكبر. وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة.


﴿موسى ورعي الغنم﴾


وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي الأغنام والسقاية لها.

ولنقف هنا وقفة تدبر. إن قدرة الإلهية نقلت خطى موسى -عليه السلام- خطوة بخطوة. منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدوّه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل نفسا. وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج من مصر. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف.

هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، قبل النداء والتكليف. تجربة الرعاية والحب والتدليل. تجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة، ومشاعر وخواطر، وإدراك ومعرفة. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.

إن الرسالة تكليف ضخم شاق، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة، إلى جانب وحي الله وتوجيهه. ورسالة موسى تكليف عظيم، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأشدهم استعلاء في الأرض. وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.

فتجربة السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى -عليه السلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة. فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة. أما الرسالة فهي معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، المهذب والخشن، القوي والضعيف، وفيهم وفيهم. وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا، وقلوب أهل القصور في الغالب لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة.

فلما استكملت نفس موسى -عليه السلام- تجاربها، وأكملت مرانها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغرة. قادت القدرة الإلهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال عمله. وهكذا نرى كيف صُنِعَ موسى على عين الله، وكيف تم إعداده لتلقي التكليف.


﴿عودة موسى لمصر﴾


ترى أي خاطر راود موسى، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟

إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها. لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة والوطن. وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها.

خرج موسى مع أهله وسار. اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظلام. اشتد البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظلام. وتاه موسى أثناء سيره. ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله.. ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل عن بعد. امتلأ قلبه بالفرح فجأة. قال لأهله: أني رأيت نارا هناك.

أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر، أو يجد أحدا يسأله عن الطريق فيهتدي إليه، أو يحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم.

وتحرك موسى نحو النار. سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه. يده اليمنى تمسك عصاه. جسده مبلل من المطر. ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه طوى. لاحظ شيئا غريبا في هذا الوادي. لم يكن هناك برد ولا رياح. ثمة صمت عظيم ساكن. واقترب موسى من النار. لم يكد يقترب منها حتى نودي: (أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء. كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة. والمفروض أن تتحول الشجرة إلى اللون الأسود وهي تحترق. لكن النار تزيد واللون الأخضر يزيد. كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه، وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي طوى.

ثم ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: ﴿.. يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ طه:13 وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي، وبوركت البقعة التي تجلى عليها ربنا ذو الجلال والإكرام، وتميز الوادي الذي كُرّم بهذا التجلي، ووقف موسى عليه السلام في أكرم موقف يلقاه إنسان، يردد بين نفسه: (ربي !! اختارني ؟! .. أنا ؟). ثم قاوم رَعشّته، واعتدل في وجل، وسَلت نعليه من قدميه وجثا على رُكبتيه مُحنياً رأسه يستمع إلى الصوت؛ فإذا بنداء ثالث يُعرّف الله فيه نفسه لموسى قائلاً: - ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ النمل:9 ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ القصص:30، ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ..﴾ طه:14 فبدأ الله لقاءه مع موسى عليه السلام بالتعارف، فعرفه بنفسه على نفسه، فهو العزيز الحكيم رب العالمين الذي لا إلـه غيره ولا رب سواه، ثم يقول له بعد هذا التعارف؛ إذا عرفتني يا موسى حقاً﴿ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ طه:14، فمن عرفني أحبني، ومن أحبني عبدني بالصلاة التي هي أم العبادات، ثم قال الله له محذراً ومنبهاً ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(1)﴾. 


﴿معجزة العصا﴾


فازداد موسى اضطراباً وخضوعاً وذلة بين يدي الله عز وجل، واستحى أن يرفع عينه من التراب إجلالاً وهيبة لله، فهدّأَ الله من روع موسى وسأله سؤالاً الغرض منه أن يلاطفه، ويؤانسه .. - فقال:﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ ؟! طه: 17. 

ففهم موسى المغزى، فلم يقل: هي عصاً وسكت، وإنما لمّا لذّ له الخطاب زاد في الجواب؛ ليستمر الحوار بينه وبين رب العزة(1) - فقال: ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ طه: 18، ثم سكت من باب التأدب مع الله، فهو بعلمه غني عن كل هذه التفاصيل. - فقال له ربه: ﴿ أَلْقِهَا يَا مُوسَى﴾ طه:19 فرمى موسى بعصاه على الأرض، فما إن لامَسَت الأرض حتى اهتزَّت، ثم بدأت تتحرك وتتلوى !! وكلما تحركت انتفخت وانتفشت ونمى حجمها وطولها ! ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ النمل :10، تركها وهرول يجري مسرعاً من شدة الفزع ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾، ولم ينظر خلفه ولم يفكر حتى في مجرد العودة إليها ليتبين ماذا سيحدث لها بعد هذا الانتفاخ والانتفاش والاهتزاز. فناداه ربه قائلاً: - ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ القصص:31 فلبى موسى النداء وعاد إليها مرة أخرى .. 

فإذا بالمفاجأة ﴿ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ طه:20، وجدها حيَّةٌ تتلوى، لونها أسود تتوسط أوداجَها المنفوخة دائرتان صفراوان كالأعين، تنفث فحيحاً، فخاف من فظاعة هيئتها وصوت فحيحها وهم بالهروب منها مرة أخرى ! فطمأنه ربه قائلاً: - ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ النمل:10، 

فأقبِل عليها وخذها ولا تخف منها فهي لن تؤذيك لنعيدها لك كما كانت؛ ﴿ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ طه:21. بَعد تردد .. اتجه موسى لعَصَاه، ووقف أمامها لحظات قبل أن ينحني بحذر ويقبِض على ذيلها الذي يتلوى، فإذا بها تتيبس وتتصلب فتعود كما كانت ! معجزة اليد - ثم قال له ربه: ﴿ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ﴾ طه:22. فضم موسى ذراعه الأيمن تحت إبط ذراعه الأيسر. - فقال له ربه: لا يا موسى أدخلها في جيبك ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾النمل:12، أي في فتحة قميصك من المكان الذي ترتديه منه. فارتاب موسى وتردد، خوفاً من أن يخرج من يديه شيء كالذي خرج من العصا ! فأمره ربه أن ينفذ الأمر فوراً فقال: - ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ ﴾القصص:28 ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾. فأطاع موسى الأمر، وأدخل يده في فتحة ثوبه من عند صدره ثم أخرجها؛ فإذا بالمفاجأة الثانية، إنها بيضاء لامعة مشعة كالشمس تتلألأ من الصفاء من غير مرض، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. فارتجف من جلال الله وهيبة المكان، وسجد على الأرض مقاوماً التلعثم والرعشة بسبب خوارق الموقف المتتابعة، فأدركته الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة، وذلك بأن يضم يده على قلبه، لتنخفض سرعة دقاته، وتهدأ خفقاته .. - فقال له ربه: 

﴿ وَاضْمُمْ إليكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْب ِ﴾ القصص:32. 

فضم ذراعيه على صدره، ورفع وجهه برهبة ونظر للشجرة التي ازدادت خضرة وحُسناً، شرد فيها متأملاً، فَسَحر الوميض المتلألئ عَينَيه حتى سَكَن وهدأت روعته، فهمس مناجياً ربه: - ما قد يرغب الرب مِن عبد فَقير ؟ التكليف بالرسالة - فقال له ربه: ستكون رسولي ونبيي كما كان أجدادك؛ يوسف ومن قبله يعقوب وإسحاق وإبراهيم. - فقال موسى: رسولك ! إلى مَن ؟ - فقال له ربه: ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ القصص:32، ثم أكد الله عليه بوضوح جوهر رسالته فقال:

﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ طه:18. 

وهذا هو الشق الأول من رسالته: مواجهة الطاغية فرعون ودعوته للعودة إلى جادة الصواب قبل أن تحل به وبالناس من حوله القارعة الكبرى، فالظلم منذر بخراب العمران، أما الشق الثاني من رسالته فهو تحرير قومه المستَعبدين، ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الأعراف:105، 

فرسالة كل الأنبياء هي تحرير البشر ليعبدوا الله وحده لا شريك له وينعكس هذا التوحيد على سلوكهم وحياتهم فلا يكون قولًا بالألسن يخالفه العمل والأنماط الاجتماعية السائدة. عوائق في طريق الدعوة شرد موسى للحظات قبل أن يشكو إلى الله بعض العقبات التي قد تكون عائقاً في طريق دعوته فقال: ﴿ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ على ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ الشعراء:14 لقد كان شبح القتيل الذي قتله موسى ما زال يطارده، وإن لقاءه بفرعون بوجه سافر سيحرك هذا الحدث الذي كاد يُنسى من ذاكرة المجتمع، ولهذا أظهر موسى ما بنفسه من خوف، وأن لقاءه فرعون، وعرض ما يعرض عليه من آيات قد يقع عند فرعون أنه حيلة يريد أن يشغله بها عن فعلته التي فعلها، ولهذا طلب أن يكون معه أخوه (هارون)، الذي لا تهمة له عند فرعون، ليكون بعيداً عن هذا الظن. ولما كان اسم فرعون يقع من نفس موسى موقعاً يثير الرعب والفزع - إنه فرعون بجبروته، وعتوه!! – استرسل متضرعاً إلى الله أن يعينه على مواجهة هذا البلاء، وأن يذهب ما به من اضطراب وفزع! - فقال: 

﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ طه:25، حتى يتّسع لامتثال أمرك، فيتقبله قلبي قبولاً حسناً، فلا يضيق به، ولا يجد حرجاً منه؛ 

﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ فإن الموقف خطير، والأمر عظيم؛ فإذا لم يكن منك العون والتيسير، فلا طاقة لي به، ولا حيلة لي فيه، 

﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴾(1)، ليكون لدي البيان الفصيح والقدرة العالية على محاجّة فرعون، ومناظرته، فـ ﴿ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ ويعقلوه، ولا تأخذهم العزّة بالإثم، فيردوه على، 

﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴾ إن نسيت ذكرني، وإن نويت خيراً أعانني وحفزني، وليكن هذا المعين هو: ﴿ هَارُونَ أَخِي ﴾ طه:30، فهو بحكم عاطفة الأخوة حريص على سلامتي، وسيقف إلى جانبي في ساعة العسرة، كما أنه ﴿ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ﴾ القصص:34، فأرسله معي ﴿ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ طه:31، الذي ندبتني إليه، وأكرمتني به ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴾ طه:35. واستجيب الطلب فأجابه المجيب القريب سبحانه وتعالى فقال: ﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ طه:36، فكل ما سألتني إياه – من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وقوة في الحُجة والفصاحة - أعطيتهم لك ولا أبالي. كأن الله عز وجل يقول لموسى عليه السلام: "يا موسى من راعى مصلحتك وأعطاك من قبل أن تسأل، أيمنع عنك خيره وأنت تسأل ؟! يا موسى من صعد بك إلى مراتب المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة، أيحجب عنك ما تؤمله ؟! "(1). - يا موسى ! كل ما سألتني إياه قد أجيب، وأبشر 

﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ(2) بِأَخِيكَ ﴾ هارون، علاوة على ما طلبت، وتلك منة جديدة سبقتها منا منن كثيرة ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ طه:37، ثم عدد عليه ربه بعض هذه المنن وتلك الحفاوات فقال: 


المنة الأولى: حين ألهمنا أمك أنّ أفضل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك في تابوت- صندوق- ثم تطرح هذا التابوت في النهر ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ﴾ طه:38 


المنة الثانية: زرعت حبك في قلب كل من رآك ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ فعندما تعرضت لخطر الذبح في قصر فرعون، قالت زوجة فرعون – التي أحبتك - لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. 


المنة الثالثة: أنك تربيت وفق إرادتي، ونشأت كما اقتضت مشيئتي ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ حتى تأتي وفق ما أحبّ وأبغي. 


المنة الرابعة: ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ بعدما حرمنا عليك المراضع ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾. 


المنة الخامسة: عندما دخلت المدينة على حين غفلة من أهلها﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا ﴾ دفاعاً عن رجل من قومك ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ﴾ الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من عقابنا، فقبلنا توبتك وغفرنا لك ذنبك، ونجيناك من جنود فرعون الذين كانوا يتربصون بك. 


المنة السادسة: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ عندما أعنّاك على تحمل ما ابتليناك به من مشقة السفر، ومرارة الغربة، وخشونة عيش الصحراء، لتتعلم الخشونة بعد حياة الترف والرفاهية فتشعر بالمحتاج، وتتعلم الصبر بعد ما كان منك من اندفاع وحِدّة فتتصدر للدعوة. ﴿ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ فاصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي 

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ طه:41. لا أدري بأي قلب استقبل موسى سماع هذه الحفاوة الربانية به، كفاه فخراً فقط أن يستمع إلى قول ربه: ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ ! وصايا ربانية وفي نهاية هذا اللقاء النوراني الفريد، وبعد أن عرّف الله موسى عليه السلام بألوهيته الواحدة، وبين له الهدف الأساسي من دعوته وهو عبادة الله عز وجل وإقامة شرائعه في الأرض، وزرع الإيمان الغيبي بقيام الساعة في قلبه، وبين له أن كل إنسان سوف يجزى بحسب عمله، ووجهه بعدم الاكتراث بأقوال المعرضين عنها لأن في نسيان الساعة هلاك للمؤمن، وعرفه بأعدائه الحقيقيين وحذرّه منهم، وأمره بالبدء بدعوتهم لأنهم أفسدوا البلاد وادّعوا الألوهية، واستمع إلى مشاكله وحلها له. الآن يُختم هذا اللقاء بعدد من الوصايا الربانية كان أولها هو الحرص على ذكر الله: 

﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ طه:42، 

فذكر الله قوة تدفع بصاحبها نحو تحقيق هدفه، وهو حصن حصين من دخله أمن على نفسه من جميع المخاطر؛ فمن يَعِش في كنف الله وحصنه من ذا الذي يجرؤ على إيذائه ؟!. وفي طيات "الوصية الأولى" هذه درراً فريدة، ووصايا محفزة .. ففي قوله تعالى: 

﴿ اذْهَبْ ﴾ تحطيم للسلبية وبناء للإيجابية؛ فأنت قائد التغيير ولو كنت وحدك فإياك أن تستقل، أو تستصغر نفسك. ﴿ أَنتَ وَأَخُوكَ ﴾ إشارة إلى أهمية العمل الجماعي المنظم، في مواجهة الظلم والظالمين، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه. ﴿ بِآيَاتِي ﴾ فيها كسر للجهل والعشوائية في العمل وتأكيد على أهمية العلم والتخطيط. ﴿ ولا تَنِيَا ﴾ فيها تحذير من الكسل أو التواكل. 

﴿ فِي ذِكْرِي ﴾ فيها تحطيم للمادية وبناء للربانية. ثم تأتي "الوصية الثانية" بالرفق بالمدعو حتى ولو كان فرعون 

﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ طه:44، فاللين واللطف هما سمة الحكماء 

مع الجهلاء، والأطباء مع المرضى؛ أما رد السفاهة بالسفاهة، والجهل بالجهل، هو نفخ في النار الموقدة، وإمداد لها بالوقود، الذي يزيدها اشتعالاً وتأججاً. ثم تأتي "الوصية الثالثة" بعدم اليأس؛ فبالرغم أنه قد سبق في علم الله أن فرعون سيموت على الكفر غارقاً، ولكنه يقول لهما: اذهبا إليه غير يائسين من هدايته ﴿ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾، طه:44. فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها إليه بحرارة، والله يريد أن يوقع الحجة على الناس عامة – وفرعون خاصة - بما وقع منهم في حياتهم؛ وليس بما سبق في علمه هو حتى وإن كان علمه بمستقبل الحوادث كعلمه بالحاضر والماضي في درجة سواء؛ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. موسى الكليم وينتهي هذا اللقاء النوراني التاريخي الفاصل بهذه الوصايا الثلاثة: "المداومة على ذكر الله، والرفق في الدعوة، والتفاؤل وعدم اليأس". ويحظى موسى عليه السلام بلقب "كليم الله" 

فهو الوحيد الذي كلمه الله مباشرة بغير واسطة - جبريل - ولعل ذلك يعود إلى مشقة المهمة المنوط بها وصعوبتها، فهو سيبدأ أول ما يبدأ بالجهر بالدعوة ومن داخل قصر أعتى ملوك الأرض وأطغاهم؛ لذا استحق موسى هذا الشرف. سجد موسى لله شكراً على استجابته لكل دعائه، وعلى مننه المتتالية، سجود طال هذه المرة بعدما شعر بسبات مُريح، إلى أن داعبت الرياح وجهه فرفع رأسه ونظر للشجرة التي انطفأ وميضها، ونظر للقمر في سماء صَفَت، ثم التقط عصاه المُلقاة بجانبه واتجه نحو "أهله" الذين تركهم بالقرب من الوادي المقدس، وحكا لهم ما كان من أمر النار والشجرة، ثم ما دار بينه وبين رب السماوات والأرض. فاقشعر جلدها إجلالاً لله، وبكت شوقاً إليه، فكم شرفها أن كانت زوجة نبي ورسول وكليم لله، كما تشرفت بأن كانت أول من آمن به من البشر. سر الابتلاء وفي طريق عودة موسى لمصر تذكر سر ابتلائه في تلك اللحظات الخوالي، عندما خرج منها خائفاً يترقب، الآن فهم السر، وعرف لماذا ابتلي هذا البلاء، فالله لم يكشف مخططه الذي سعى به لقيادة ثورة إصلاحية لأوضاع بني إسرائيل بغضاً فيه، ولا لخطأٍ في طريق التغيير الذي أراد أن يتبناه، ولكن لأن الله دبر أمراً آخر فيه الخير له ولمن بعده، فلقد كان هذا "الابتلاء" في صالحه وإن بدا له في وقتها غير ذلك، وهذا من تمام تدبير الله وحكمته، وصدق بن عطاء الله السكندري عندما قال"ربما منعك ليعطيك"، ففوض أمرك للذي يدبر الأمور، وللذي من حكمته أن ربما يمنع الإنسان من خير صغير ليجلب له الخير الأكبر. عاد موسى إلى مصر، ودخل نحو خرائب وأكواخ بني إسرائيل، فوجد أهلها ازدادوا فقراً وتهميشاً، نَحلت الوجوه، وهزلت الأجساد، وغُلّقت المتاجر وتناثر المرابون والعاهرات، كثر الذباب وفاح العرق والمرض والشقاء من كل رُكن، لم يندهش موسى كثيراً من أوضاعهم التي تزداد كل يومٍ سوءاً على سوء، فتلك نتيجة السكوت على ظلم الظالم وفساده. طرق موسى باب بيت أمه والشوق يسبقه لرؤياها .. فتح هارون الباب واحتاج للحظات حتى تعرف على وجه أخيه، الذي أخفى ملامحه تحت قلنسوة، وتناثر الشيب في لحيته، وغبرت ملابسه بتراب السفر في الصحراء ! ولكن سرعان ما تذكره واحتضنه بفرحة حتَّى بكيا، ثم أدخله ومن معه بسرعة وأحكم غلق الباب. فلما دخل وجد أمه قد أعياها المرض وجعلها طريحة الفراش، لا تقوى على النهوض لاستقباله، وكأن الله أطال في عمرها حتى ترى بعينيها موسى بعدما أكرمه الله بالرسالة، ليتحقق وعد الله الثاني عندما بشرها فقال: ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ القصص:7. فضمها إلي صدره ضمة نسي بعدها آلام الغربة والفراق .. وبعد أن زال عن موسى عنت السفر، وارتاح من مشقة الطريق، حكى لهم ما كان من أمر سنواته العشر في مدين، وعرفهم بزوجته الشريفة العفيفة التي ارتضته زوجاً لها رغم أنه وقتها كان بلا مال ولا سكن ولا عمل، إضافة إلى أنه أحد المطلوبين لدى الطاغية فرعون، ثم قطع حديثه عند رحلة العودة وما حدث عند الشجرة العجيبة، ليسأل هارون عن حال أبيهما "عمران" ؟! - فأخبره هارون أنه قد مات بعد مرض لم يمهله، وأن مريم قد تزوجت برجل صالح من بني إسرائيل وتعيش معه بجوارهم. فسأله موسى عن فرعون .. فأخبره أنه ما زال يعيث في الأرض فساداً، ولا يزال يزداد ظلماً على ظلمه وجبروتاً على جبروته؛ يُوتِد الأطراف ويُقطِّع الرقاب، ويُصلِّب الناس على جذوع النخل لأتفه الأسباب، ولا زال يأخذ فتيات بني إسرائيل ليُبعن أو يخدمن أو يحترفن البغاء، والشعب لا يحرك ساكناً، يبدد قواهم كل يوم في حفر الخنادق وبناء القصور والمعابد، وصناعة الطوب في موقد ضخم لا تخبو ناره. طلب هارون من موسى أن يكمل ما بدأه من حديث خاصة ما حدث لهم عند الشجرة في صحراء سيناء .. فأكمل موسى حديثه إلى أن أخبره أنه دعا الله أن يكلفه معه بالرسالة، وقد استجاب الله دعاءه وأصبح مكلفاً مثله تماماً – من الله - بتوصيل الرسالة إلى فرعون، وإقامة الحجة عليه وعلى قيادات الدولة من الملأ، حتى يؤمنوا بالله الواحد الأحد ويرفعوا العبودية عن بني إسرائيل ويتركوهم يخرجون من مصر إلى أرض الله الواسعة. فتدلّى فكُ هارون وانقطعت أنفاسه وزاغت عيناه شروداً فيما قاله أخوه، ولم يفق هارون من صدمته إلا حين أخرج موسى يده من جيبه بيضاء مضيئة، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، قائلاً له: تلك آيات ربي التي أرسلني بها إلى فرعون وملئه. دمعت عينا هارون ثم جثا على ركبتيه شاكراً الله على أن اختصه مع أخيه بالرسالة، ودعاه أن يوفقهما في إقامة الحجة على القوم الظالمين. 


﴿مواجهة موسي لفرعون﴾


بعد أن كلّف الله -تعالى- موسى -عليه السلام- بالرسالة وأيّدهُ بالمعجزات وبأخيه هارون، ذهب إلى فرعون ودعاه للإيمان بالله وإخلاص العبادة له، فما كان من فرعون إلّا أنّ كذّبهم واتّهمهم بالسّحر، ثمّ دعاهم إلى المبارزة على أعين الناس يوم العيد، فوافق موسى عليه السلام، وبدأ فرعون بجمع قوّته وكيده فأرسل إلى السّحرة في جميع أنحاء مصر ليأتوه ويشاركوا في معركته، فما لبثوا حتى جاؤوه وقالوا له نُريد أجراً إن انتصرنا على موسى وهارون، فوعدهم بالمال والجاه إذا انتصروا، ثمّ جاء اليوم المُنتظر، فوقف موسى -عليه السلام- وسط الجموع الغفيرة ثمّ طلب من فرعون حجّته، فألقى السحرة حبالهم، وعصيهم وفعلوا سحراً عظيماً أرهب الحاضرين، ولكن سرعان ما تلاشى سحرهم وبطل كيدهم لمّا ألقى موسى -عليه السلام- عصاه التي تحوّلت إلى أفعى عظيمة تبتلع سحرهم بأمر الله تعالى، وعندها عَلِم السحرة أنّ ذلك ليس بسحر وإنّما هو الحقّ من عند الله -تعالى- فخرّوا سُجّداً وآمنوا بالله، فغضب فرعون لِما أصابه من الهزيمة ولم تبقى له حُجّة بعد إسلام السّحرة، فلجأ إلى القوّة والتهديد بقتل السّحرة الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحية، والصبر في سبيل الحقّ.


﴿نجاة موسى وهلاك فرعون﴾


صبر موسى -عليه السلام- مع من آمن معه على بطش وعتو فرعون وظلمه، وتوجّه إلى ربه بالدعاء الصادق، قال الله -تعالى- على لسان نبيه: (وَقالَ موسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيتَ فِرعَونَ وَمَلَأَهُ زينَةً وَأَموالًا فِي الحَياةِ الدُّنيا رَبَّنا لِيُضِلّوا عَن سَبيلِكَ رَبَّنَا اطمِس عَلى أَموالِهِم وَاشدُد عَلى قُلوبِهِم فَلا يُؤمِنوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَليمَ)،فاستجاب الله -سبحانه- لدعاء نبيه، وأوحى إليه بالخروج مع من آمن معه من أرض مصر، ولحق فرعون بهم مع جنوده، وأدركهم حين شروق الشمس، وتواجه الفريقان، فأوحى الله لنبيه أن يضرب البحر بعصاه ليتحوّل إلى يابس، فتجاوزه موسى ومن معه، وأراد فرعون أن يلحق بهم، إلّا أنّ الله -تعالى- أغرقه مع جنوده، قال تعالى: (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ*ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ*وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)،وأراد فرعون الإيمان حين أدركه الغرق، وندم على ما بدر منه، إلّا أنّ توبته لم تُنجيه، قال الله سبحانه: (قالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلَّا الَّذي آمَنَت بِهِ بَنو إِسرائيلَ وَأَنا مِنَ المُسلِمينَ*آلآنَ وَقَد عَصَيتَ قَبلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدينَ).


إرسال تعليق

أحدث أقدم